سورة الإنسان - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإنسان)


        


{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد. وقرئ {سلاسل} غير منوّن. {وسلاسلا}، بالتنوين. وفيه وجهان: أحدهما أن تكون هذه النون بدلا من حرف الإطلاق، ويجري الوصل مجرى الوقف.
والثاني: أن يكون صاحب القراءة به ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف.


{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)}
{الأبرار} جمع برّ أو بارّ، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد.
وعن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذرّ والكأس: الزجاجة إذا كانت فيها خمر، وتسمى الخمر نفسها: كأساً {مِزَاجُهَا} ما تمزج به {كَافُوراً} ماء كافور، وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده. و{عَيْناً} بدل منه.
وعن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك. وقيل: تخلق فيها رائحة الكافور وبياضه وبرده، فكأنها مزجت بالكافور. و{عَيْناً} على هذين القولين: بدل من محل {مِن كَأْسٍ} على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل: يشربون فيها خمراً خمر عين. أو نصب على الاختصاص.
فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أوّلاً، وبحرف الإلصاق آخراً؟ قلت: لأنّ الكأس مبدأ شربهم وأوّل غايته؛ وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكان المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل {يُفَجّرُونَهَا} يجرونها حيث شاؤا من منازلهم {تَفْجِيرًا} سهلا لا يمتنع عليهم {يُوفُونَ} جواب من عسى، يقول: ما لهم يرزقون ذلك، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات؛ لأنّ من وفى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى {مُسْتَطِيراً} فاشياً منتشراً بالغاً أقصى المبالغ، من استطار الحريق، واستطار الفجر. وهو من طار، بمنزلة استنفر من نفر {على حُبِّهِ} الضمير للطعام، أي: مع اشتهائه والحاجة إليه. ونحوه {وآتى المال على حبه} [البقرة: 177]، {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وعن الفضيل بن عياض: على حب الله {وَأَسِيراً} عن الحسن: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أحسن إليه؛ فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات وعن قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.
وعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة، وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الغريم أسيراً، فقال «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولا باللسان منعاً لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر؛ لأن إحسانهم مفعول لوجه الله؛ فلا معنى لمكافأة الخلق. وأن يكون قولهم لهم لطفاً وتفقيها وتنبيهاً، على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول ما قالوا؟ فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله.
ويجوز أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئاً.
وعن مجاهد: أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم. والشكور والكفور: مصدران كالشكر والكفر {إِنَّا نَخَافُ} يحتمل أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم، لا لإرادة مكافأتكم؛ وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة. ووصف اليوم بالعبوس. مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم: روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل: والقمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه. قال الزجاج: يقال: اقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها فاشتقه من القطر وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة.
واصطليت الْحُرُوبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ *** بَاسِلَ الشَّرِّ قَمْطَرِيرَ الصَّبَاحِ


{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}
{ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً} أي: أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسروراً في القلوب، وهذا يدل على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله {بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على الإيثار.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه؛ فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك، فنذر عليّ وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما: أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياماً؛ فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه؛ ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك؛ فلما أصبحوا أخد علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ماأشد ما يسوءني ما أرى بكم، وقام فانطلق، معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها. فساءه ذلك، فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد هنأك اللَّه في أهل بيتك فأقرأه السورة.
فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت: المعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدّي إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكل هنيّ، {وحريراً} فيه ملبس بهيّ. يعني: أن هواءها معتدل، لا حرّ شمس يحمي ولا شدّة برد تؤذي. وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج، لا حرّ ولا قرّ» وقيل: الزمهرير القمر.
وعن ثعلب: أنه في لغة طيئ. وأنشد:
وَلَيْلَةٍ ظَلاَمُهَا قَدِ اعتَكَرْ *** قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ
والمعنى: أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر.
فإن قلت: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها} علام عطفت؟ قلت: على الجملة التي قبلها؛ لأنها في موضع الحال من المجزيين؛ وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في عليهم، إلا أنها اسم مفرد، وتلك جملة في حكم مفرد تقديره: غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً، ودانية عليهم ظلالها؛ ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ ودنوّ الظلال عليهم وقرئ {ودانية} بالرفع، على أن ظلالها مبتدأ، ودانية خبر، والجملة في موضع الحال؛ والمعنى: لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، والحال أن ظلالها دانية عليهم؛ ويجوز أن تجعل {مُتَّكِئِينَ} و{لاَ يَرَوْنَ} و{ودَانِيَةً} كلها صفات لجنة.
ويجوز أن يكون {وَدَانِيَةً} معطوفة على جنة، أي: وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، على أنها وعدوا جنتين، كقوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، لأنهم وصفوا بالخوف: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا} [الإنسان: 10]، فإن قلت: فعلام عطف {وَذُلِّلَتْ}؟ قلت: هي- إذا رفعت {وَدَانِيَةً}- جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية، وإذا نصبتها على الحال، فهي حال من دانية، أي: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم. أو معطوفة عليها على: ودانية عليهم ظلالها، ومذللة قطوفها؛ وإذا نصبت {وَدَانِيَةً} على الوصف، فهي صفة مثلها؛ ألا ترى أنك لو قلت: جنة ذللت قطوفها: كان صحيحاً؛ وتذليل القطوف: أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاؤا. أو تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصيراً {قَوارِيرَ قَوارِيرَ} قرئا غير منونين، وبتنوين الأول،، وبتنوينهما. وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق، لأنه فاصلة؛ وفي الثاني لإتباعه الأوّل، ومعنى قوارير من {فِضَّةٍ} أنها مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها.
فإن قلت: ما معنى {كانت}؟ قلت هو من- يكون- في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] أي: تكوّنت قوارير، بتكون الله تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه كان في قوله: {كان مزاجها كافوراً}. وقرئ {قوارير من فضة} بالرفع على: هي قوارير {قَدَّرُوهَا} صفة لقوارير من فضة. ومعنى تقديرهم لها: أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدّروا. وقيل: الضمير للطائفين بها، دل عليهم قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} [الإنسان: 15]، على أنهم قدروا شرابها على قدر الرّي، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز.
وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض. وقرئ: {قدّروها} على البناء للمفعول. ووجهه أن يكون من قدر، منقولا من قدر. تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان: إذا جعلك قادراً له. ومعناه: جعلوا قادرين له كما شاؤا. وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا، سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه.
قال الأعشى:
كَأَنَّ الْقَرَنْفُلَ وَالزَّنْجَبِيلَ *** بَاتَا بِفِيهَا وَأَرْياً مَشُورَا
وقال المسيب بن علس.
وَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيلِ بِه *** إذْ ذُقْتُهُ وَسُلاَفَةَ الْخَمْرِ
و{سَلْسَبِيلاً} لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يعني: أنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعه، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة. يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. ودلت على غاية السلاسة. قال الزجاج: السلسبيل في اللغة: صفة لماكان في غاية السلاسة. وقرئ {سلسبيل} على منع الصرف، لاجتماع العلمية والتأنيث: وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن معناه سل سبيلا إليها، وهذا غير مستقيم على ظاهره.
إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلاً، جعلت علما للعين، كما قيل: تأبط شراً؛ وذرّى حباً؛ وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع؛ وعزوُه إلى مثل علي رضي الله عنه أبدع وفي شعر بعض المحدثين:
سَلْ سَبِيلاً فِيهَا إلَى رَاحَةِ النَّفْ *** سِ بِرَاحٍ كَأَنَّهَا سَلْسَبِيلُ
و{عَيْناً} بدل من {زَنجَبِيلاً} وقيل: تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه. أو يخلق الله طعمه فيها. و{عَيْناً} على هذا القول: مبدلة من {كَأْساً} كأنه قيل: ويسقون فيها كأساً كأس عين. أو منصوبة على الاختصاص. شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور وعن المأمون: أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ. فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط، فاستحسن المنظر وقال: لله درّ أبي نواس، وكأنه أبصر هذا حيث يقول:
كَأَنَّ صُغْرَى وَكُبْرَى مِنْ فَوَاقِعِهَا *** حَصْبَاءُ دُرٍّ عَلَى أَرْضٍ مِنَ الذَّهَبِ
وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه، لأنه أحسن وأكثر ماء {رَأَيْتَ} ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع ويعم، كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية، ثم ومعناه: أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير و{ثَمَّ} في موضع النصب على الظرف، يعني في الجنة ومن قال: معناه: (ما ثم) فقد أخطأ، لأن (ثم) صلة لما، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة {كَبِيراً} واسعاً وهنيئاً. يروى: أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه.
وقيل لا زوال له. وقيل: إذا أرادوا شيأ كان. وقيل: يسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم قرئ {عاليهم} بالسكون، على أنه مبتدأ خبره {ثِيَابُ سُندُسٍ} أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. وعاليهم بالنصب، على أنه حال من الضمير في {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أو في {حَسِبْتَهُمْ} أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب. أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب. ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. وعاليتهم: بالرفع والنصب على ذلك. وعليهم. وخضر وإستبرق: بالرفع، حملا على الثياب بالجرّ على السندس. وقرئ {وإستبرق} نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف؛ تقول: الإستبرق، إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب. وقرئ {واستبرق}، بوصل الهمزة والفتح: على أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضاً: لأنه معرب مشهور تعريبه، وأنّ أصله: استبره {وحلوا} عطف على {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ}.
فإن قلت: ذكر هاهنا أنّ أساورهم من فضة، وفي موضع آخر أنها من ذهب.
قلت: هب أنه قيل وحلوا أساور من ذهب ومن فضة، وهذا صحيح لا إشكال فيه، على أنهم يسورون بالجنسين: إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينها، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوار من ذهب، وسوار من فضة {شَرَاباً طَهُوراً} ليس برجس كخمر الدنيا؛ لأنّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل، وليست الدار دار تكليف. أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة، وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك. أي: يقال لأهل الجنة {إِنَّ هذا} وهذا إشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله لهم: ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم، والشكر مجاز.

1 | 2 | 3